تذكير بنعم الله
في شهر رمضان يحسُّ المسلم بمقدار نعمة الله عليه في الشبع والري، فإن إلف النعم يفقد المرء الإحساس بقيمتها، ولا تُعرف النعم الكثيرة إلا عند فقدها؛ ولهذا قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والإنسان إذا أمسك طوال النهار عن الطعام حتى عضَّه الجوع، وعن الشراب حتى مسَّه الظمأ، حتى إذا جاء المغرب، فأشبع جوعه، وروى ظمأه، أحس بمقدار هذه النعمة، وقال حامدًا الله تعالى: ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
هنا يحس الإنسان بفرحة فطرية، حين حلَّ له ما كان محرمًا عليه طوال يومه، وهو ما عبَّر عنه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
شهر التعاطف
بالصوم كذلك يشعر الإنسان بآلام الآخرين، وبجوع الجائعين، وحرمان المحرومين، حين يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيعطف عليهم قلبه، وتنبسط إليهم يده. ولهذا عُرِف رمضان بأنه شهر المواساة والبرِّ والخيرات والصدقات، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في رمضان أجود ما يكون، فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ولقد حُكِي عن يوسف الصدِّيق (عليه السلام) أنه كان لا يشبع من طعام، وبيده خزائن الأرض في مصر، فلما سُئِل في ذلك، قال: أخشى إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء!.
إن رمضان شهر فريد في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الأسرة المسلمة، وفي حياة الجماعة الإسلامية، وأنا أسميه (ربيع الحياة الإسلامية) فيه تتجدد الحياة كلها: تتجدد العقول بالعلم والمعرفة، وتتجدد القلوب بالإيمان والتقوى، ويتجدد المجتمع بالترابط والتواصل، وتتجدد العزائم باستباق الخير؛ إذ تكثر حوافزه، وتقل أسباب الشر ودواعيه، وتطرد ملائكة الخير شياطين الشر، وقد عبَّر عن ذلك الحديث الشريف: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وصفدت الشياطين"، وفي رواية: "ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
هذا الاحتفاء السماوي الكبير بمقدم رمضان: تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد كل شيطان: دليل على أن لهذا الشهر منزلة جليلة، وأن له في حياة المسلمين رسالة عظيمة، وهي ما عبَّر عنها القرآن الكريم بتهيئة الجماعة المؤمنة للتقوى، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" (البقرة: 183).
ومن راقب حياة المسلمين في كل عام قبل قدوم رمضان، وبعد رحيل رمضان؛ يستيقن من هذه الحقيقة الاجتماعية الثابتة بالمشاهدة، وهي توافر الخير وعمل الصالحات في هذا الشهر، وقلة الشر والجرائم فيه؛ ولهذا يجتهد الوعَّاظ والخطباء في أواخر الشهر أن يُغروا جماهير الناس باستمرار هذه النيَّات الصالحة، والعزائم الصادقة على عمل الخير، وخير العمل، وكثيرًا ما سمعناهم يقولون في خطبهم ودروسهم: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربَّانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا!.
وإنك لتعجب من تأثير هذا الشهر في بعض الناس الذين انقطع حبل الصلة بينهم وبين الله ربهم وخالقهم ورازقهم، فإذا هم يعودون إليه في رمضان، ويعرفون المسجد، وتلاوة القرآن. وبعضهم يصومون هذا الشهر وإن لم يزاولوا الصلاة.
ولكن.. كيف نستقبله؟
وإنك لترى أثر ذلك في أجهزة الإعلام، فنراها في هذا الشهر العظيم تستحي من تقديم ما لا تستحي منه في سائر الشهور، من أغانٍ، وأفلام، وتمثيليات، ومسلسلات، ومسرحيات، بل تُعِدّ لهذا الشهر برامج خاصة، تغذِّي الروح، وتنمِّي الإيمان، وتُعلي القيم، وتزكِّي الأنفس، وتطارد الفحشاء والمنكر والبغي، لولا ما يشوبها في بعض الأقطار من بدعة راجت سوقها، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي ما سمَّوه (فوازير رمضان) التي اشتكى منها العلماء والعقلاء، وقالوا: إن رمضان بريء منها، ولا يجوز أن تُنسب إليه بحال من الأحوال.
وكذلك تحسّ وتشاهد أثر هذا الشهر في الحياة الاجتماعية، حيث تزداد الأسرة تماسكًا، فيفطرون معًا، ويتسحرون معًا، ويزداد المجتمع تواصلاً، فيزور الناس بعضهم بعضًا، ويدعو بعضهم بعضًا على الإفطار، ويحسُّ الفقراء بأنهم في هذا الشهر أحسن حالاً، وأوسع عيشًا من الشهور الأخرى؛ بسبب موائد الرحمن، التي يقدمها المُوسِرون للمُعوزين من الناس؛ لينالوا أجر تفطير الصائم، وتنتعش المشروعات الخيرية بما يقدم إليها من مساعدات من أهل الخير، من الزكوات المفروضة التي يؤثر كثير من المسلمين إخراجها في رمضان، ومن الصدقات المستحبة التي يتسابق الناس إليها في هذا الشهر الكريم.
ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من هذا شهر رمضان، فهو موسم المتَّقين، ومتّجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين؛ ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: مرحبًا بالمُطهِّر! فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات.
فلنتخذ من رمضان (معسكرًا) إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معيش.
ورحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا)!.